الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً}. عَطَفَتْ الواو قصة خلق أول البشر على قصة خلق السماوات والأرض انتقالاً بهم في الاستدلال على أن الله واحد وعلى بطلان شركهم وتخلصاً من ذكر خلق السماوات والأرض إلى خلق النوع الذي هو سلطان الأرض والمتصرف في أحوالها، ليُجمع بين تعدد الأدلة وبين مختلف حوادث تكوين العوالم وأصلها ليعلم المسلمون ما عَلِمَه أهل الكتاب من العلم الذي كانوا يُباهون به العربَ وهو ما في سفر التكوين من التوراة. واعلم أن موقع الدليل بخلق آدم على الوحدانية هو أن خلق أصل النوع أمر مدرك بالضرورة لأن كل إنسان إذا لَفَتَ ذهنه إلى وجوده علم أنه وجود مسبوق بوجود أصل له بما يشاهد من نشأة الأبناء عن الآباء فيوقن أن لهذا النوع أصلاً أولَ ينتهي إليه نشوءه، وإذ قد كانت العبرة بخلق ما في الأرض جميعاً أُدْمِجت فيها منة وهي قوله: {لكم} [البقرة: 29] المقتضية أن خلق ما في الأرض لأجلهم تَهَيَّأتْ أنفسهم لسماع قصة إيجاد منشأ الناس الذين خُلقت الأرض لأجلهم ليُحاط بما في ذلك من دلائل القدرة مع عظيم المنة وهي منة الخلق التي نشأت عنها فضائل جمة ومِنَّة التفضيل ومنة خلافة الله في الأرض، فكان خَلق أصلنا هو أبدع مظاهر إحيائنا الذي هو الأصل في خلق ما في الأرض لنا، فكانت المناسبة في الانتقال إلى التذكير به واضحة مع حسن التخلص إلى ذكر خبره العجيب، فإيراد واو العطف هنا لأجل إظهار استقلال هذه القصة في حد ذاتها في عظم شأنها. و (إذ) من أسماء الزمان المبهمَة تدل على زمان نسبة ماضية وقعتْ فيه نسبةٌ أخرى ماضية قارنتها، ف (إذْ) تحتاج إلى جملتين جملة أصلية وهي الدالة على المظروف وتلك هي التي تكون مع جميع الظروف، وجملة تبين الظرف ما هو، لأن (إذ) لما كانت مبهمة احتاجت لما يبين زمانها عن بقية الأزمنة، فلذلك لزمت إضافتها إلى الجمل أبداً، والأكثر في الكلام أن تكون إذ في محل ظرف لزَمن الفعل فتكون في محل نصب على المفعول فيه، وقد تخرج (إذ) عن النصب على الظرفية إلى المفعولية كأسماء الزمان المتصرفة على ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» وهو مختار ابن هشام خلافاً لظاهركلام الجمهور، فهي تصير ظرفاً مبهماً متصرفاً، وقد يضاف إليها اسم زمان نحو يومئذٍ وساعتئذٍ فتجر بإضافة صورية ليكون ذكرها وسيلة إلى حذف الجملة المضافةِ هي إليها، وذلك أن (إذ) ملازمة للإضافة فإذا حذفت جملتها عَلِم السامع أن هنالك حذفاً، فإذا أرادوا أن يحذفوا جملة مع اسم زمان غير (إذ) خافوا أن لا يهتدي السامع لشيء محذوف حتى يتطلب دليله فجعلوا إذْ قرينة على إضافةٍ وحذفوا الجملة لينبهوا السامع فيتطلب دليل المحذوف. وهي في هذه الآية يجوز أن تكون ظرفاً وكذلك أعربها الجمهور وجعلوها متعلقة بقوله: {قالوا} وهو يفضي إلى أن يكون المقصود من القصة قولَ الملائكة وذلك بعيد لأن المقصود من العبرة هو خطاب الله لهم وهو مبدأ العبرة وما تضمنته من تشريف آدم وتعليمه بعد الامتنان بإيجاد أصل نوع الناس الذي هو مناط العبرة من قوله: {كيف تكفرون} [البقرة: 28] الآيات، ولأنه لا يتأتى في نظيرها وهو قوله الآتي: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا} [البقرة: 34] إذ وجود فاء التعقيب يمنع من جعل الظرف متعلقاً بمدخولها، ولأن الأظهر أن قوله: {قالوا} حكاية للمراجعة والمحاورة على طريقة أمثاله كما سنحققه. فالذي ينساق إليه أسلوب النظم فيه أن يكون العطف على جملة: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] أي خلق لكم ما في الأرض وقال للملائكة إني خالق أصل الإنسان لِما قدمناه من أن ذكر خلق ما في الأرض وكونِه لأجلنا يهيئ السامع لترقب ذكر شأننا بعد ذكر شأن ما خُلق لأجلنا من سماء وأرض، وتكون (إذ) على هذا مزيدة للتأكيد قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى وأنشد قول الأسود بن يعفر: فإذْ وذلك لامهاهَ لذكره *** والدهرُ يُعقِب صالحاً بفساد (هكذا رواه فإذْ على أن يكون في البيت زحاف الطي، وفي رواية فإذا فلا زحاف، والمهاه بهاءين الحُسْن ولا يشكل عليه أن شأن الزيادة أن تكون في الحروف لأن إذ وإذا ونحوهما عوملت معاملة الحروف)، أو أن يكون عطف القصة على القصة ويؤيده أنها تبتدأ بها القصص العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى، ألا ترى أنها ذكرت أيضاً في قوله تعالى: {وإذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} ولم تذكر فيما بينهما وتكون (إذْ) اسم زمان مفعولاً به بتقدير اذكر، ونظيره كثير في القرآن، والمقصود من تعليق الذكر والقصة بالزمان إنما هو ما حصل في ذلك الزمان من الأحوال. وتخصيص اسم الزمان دون اسم المكان لأن الناس تعارفوا إسناد الحوادث التاريخية والقصص إلى أزمان وقوعها. وكلام الله تعالى للملائكة أطلق على ما يفهمون منه إرادته وهو المعبر عنه بالكلام النفسي فيحتمل أنه كلام سمعوه فإطلاق القول عليه حقيقة وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة، فإطلاق القول عليه مجاز لأنه دلالة للعقلاء والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم " اشتكت النار إلى ربها " وقوله تعالى: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11] وقول أبي النجم: «إذ قالت الآطال للبطن الحق»، ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين. والملائكة جمع ملك وأصل صيغة الجمع ملائكة والتاء لتأكيد الجمعية لما في التاء من الإيذان بمعنى الجماعة، والظاهر أن تأنيث ملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصرين منهم إذ كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله واعتقده العرب أيضاً قال تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه} [النحل: 57] فملائك جمع ملأك كشمائل وشمأل، ومما يدل عليه أيضاً قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره: ولَسْت لإِنْسِيَ ولكِنْ لِمَلأَكٍ *** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يُصَوِّب ثم قالوا ملك تخفيفاً. وقد اختلفوا في اشتقاقه فقال أبو عبيدة هو مفعل من لأك بمعنى أرسل ومنه قولهم في الأمر بتبليغ رسالة ألكني إليه أي كن رسولي إليه وأصل ألكني ألإكني وإن لم يعرف له فعل. وإنما اشتق اسم الملك من الإرسال لأن الملائكة رسل الله إما بتبليغ أو تكوين كما في الحديث: «ثم يرسل إليه (أي للجنين في بطن أمه) الملك فينفخ فيه الروح»، فعلى هذا القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول، وقال الكسائي هو مقلوب ووزنه الآن معفل وأصله مأْلك من الألوك والأَلوكة وهي الرسالة ويقال مأْلَكُ ومأْلَُكة (بفتح اللام وضمها) فقلبوا فيه قلباً مكانياً فقالوا ملأَك فهو صفة مشبهة. وقال ابن كيسان هو مشتق من الملك (بفتح الميم وسكون اللام) والملك بمعنى القوة قال تعالى: {عليها ملائكة غلاظ شداد} [التحريم: 6] والهمزة مزيدة فوزنه فعْأَل بسكون العين وفتح الهمزة كشَمْأَل، ورد بأن دعوى زيادة حرف بلا فائدة دعوى بعيدة، ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل، فرجح مذهب أبي عبيدة، ونقل القرطبي عن النضر بن شميل أنه قال لا اشتقاق للمَلَك عند العرب يريد أنهم عَرَّبوه من اللغة العبرانية ويؤيده أن التوراة سمت المَلَك مَلاَكاً بالتخفيف، وليس وجود كلمة متقاربة اللفظ والمعنى في لغتين بدال على أنها منقولة من إحداهما إلى الأخرى إلا بأدلة أخرى. والملائكة مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة لأن النور قابل للتشكل في كيفيات ولأن أجزاءه لا تتزاحم ونورها لا شعاع له فلذلك لا تضئ إذا اتصلت بالعالم الأرضي وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يظهر بعضُهم لبعض رسله وأنبيائه على وجه خرق العادة. وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد الله تكوينها فتتولى التدبير لها ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها وهي مضادة لتوجهات الشياطين، فالخواطر الخيرية من توجهات الملائكة وعلاقتها بالنفوس البشرية وبعكسها خواطر الشر. والخليفة في الأصل الذي يخلف غيره أو يكون بدلاً عنه في عمل يعمله، فهو فعيل بمعنى فاعل والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالعَلاَّمة. والمراد من الخليفة هنا إما المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملاً يريده المستخلِف مثل الوكيل والوصي، أي جاعل في الأرض مدبراً يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لم يكن حَالاً في الأرض ولا عاملاً فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطنة على موجودات الأرض، ولأن الله تعالى لم يترك عملاً كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل لله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلافَ غيره من الحيوان، وإما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبلُ بطائفة من المخلوقات يسمَّون الحِن والبِن بحاء مهملة مكسورة ونون في الأول، وبموحدة مكسورة ونون في الثاني وقيل اسمهم الطَّم والرَّم بفتح أولهما، وأحسبه من المزاعم، وأن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس: هيَّان بن بَيَّان إشارة إلى غير موجود أو غير معروف. ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطَّم والرَّم كان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التِيتَان وأن زفس وهو المشتري كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم. وكل هذا ينافيه سياق الآية فإن تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جَعْلَ الخليفة دليل على أن جعْل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته ولا يلزم أن يكون المخلوف مستقِراً في المكان من قبل، فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسَن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم، فكانت الآية من هذا الوجه إيماءً إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك، وقد بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة والخلافة وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والمُلْك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [النساء: 64] ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبيء صلى الله عليه وسلم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، من جُفاة الأعراب ودُعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سُدًى. وللخليفة شروط محل بيانها كتب الفقه والكلام، وستجيء مناسبتها في آيات آتية. والظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه أو قبل النفخ والأول أظهر، فيكون المراد بالمخبَر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب كتاباً بحضرة جليس إني مرسل كتاباً إلى فلان فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي هو بصدد كتابته كتاب لفلان، ويجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم، وعلى الوجوه كلها يكون اسم الفاعل في قوله: {جاعل} للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتاً لآدم ساعتئذٍ. وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما عَلِم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس، وليكون كالاستشارة لهم تكريماً لهم فيكونُ تعليماً في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب وليَسُنَّ الاستشارة في الأمور، ولتنبيه الملائكة على ما دقَّ وخفي من حكمة خلق آدم كذا ذكر المفسرون. وعندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكونَ حقيقةً مقارنةً في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموساً أُشْرِبَتْه نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء مَّا، تؤثر تآلُفاً بين ذلك الكائن وبين المقارن. ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعاً لذوات مَقامَ أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئاً أي إنشاءَ ذاتتٍ أن يقول له كن فيكون، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قَبول العلم من خصائص الإنسان علَّم آدم الأسماء عندما خلقه. وهذا هو وجه مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضاً للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل، ولهذا أيضاً طَلبت منا الشريعة تخيُّر أكمل الحالات وأفضللِ الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب، وتقدم هذا في الكلام على البسملة، وسنذكر ما يتعلق بالشورى عند قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} في سورة آل عمران (159). وأسندت حكاية هذا القول إلى الله سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبئ عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح وذلك من معاني الربوبية كما تقدم في قوله: {الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة 2)، ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع وهو النبيء محمد صلى الله عليه وسلم مع تكريمه بشرف حضور المخاطَبة. {قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء}. هذا جواب الملائكة عن قول الله لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة} فالتقدير فقالوا على وزان قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا} [البقرة: 34] وفُصل الجواب ولم يعطف بالفاء أو الواو جرياً به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات وهي طريقة عربية قال زهير: قيل لهم ألا اركبوا ألاتا *** قالوا جميعاً كلهم آلافا أي فاركبوا ولم يقل فقالوا. وقال رؤبة بن العجاج: قالت بنات العم يا سلمى وإن *** كان فقيراً مُعدماً قالت وإن وإنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع وهو كثير في التنزيل وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال وإن كان العطف بالفاء هو الظاهر والأصل، وهذا مما لم أسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي. ومما عطف بالفاء قوله تعالى: {فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} فقال الملأ في سورة المؤمنين (23، 24) وقد يعطف بالواو أيضاً كما في قوله: {فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه} الخ في سورة المؤمنون (32، 33) وذلك إذا لم يكن المقصود حكاية التحاور بل قصد الإخبار عن أقوال جرت أو كانت الأقوال المحكية ممّا جرى في أوقات متفرّقة أو أمكنة متفرّقة. ويظهر ذلك لك في قوله تعالى: {قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه} [غافر: 25] إلى قوله: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى} (26) ثم قال تعالى: {وقال موسى إني عذت بربي وربكم} (27) ثم قال: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون} (28) الآية في سورة غافر، وليس قوله: قالوا أتجعل} جواباً لإذ عاملاً فيها لما قدمناه آنفاً من أنه يفضي إلى أن يكون قولهم: {أتجعل فيها} هو المقصود من القصة وأن تصير جملة (إذ) تابعة له إذ الظرف تابع للمظروف. والاستفهام المحكي عن كلام الملائكة محمول على حقيقته مضمن معنى التعجب والاستبعاد من أن تتعلق الحكمة بذلك فدلالة الاستفهام على ذلك هنا بطريق الكناية مع تطلب ما يزيل إنكارهم واستبعادهم فلذلك تعين بقاء الاستفهام على حقيقته خلافاً لمن توهم الاستفهام هنا لمجرد التعجب، والذي أقدم الملائكة على هذا السؤال أنهم علموا أن الله لما أخبرهم أراد منهم إظهار علمهم تجاه هذا الخبر لأنهم مفطورون على الصدق والنزاهة من كل مؤاربة فلما نشأ ذلك في نفوسهم أفصحت عنه دلالة تدل عليه يعلمها الله تعالى من أحوالهم لا سيما إذا كان من تمام الاستشارة أن يبدي المستشار ما يراه نصحاً وفي الحديث: «المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم» يعني إذا تكلم فعليه أداء أمانة النصحية. وعبر بالموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام وهو الاستفهام والتعجب لأن من كان من شأنه الفساد والسفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره. وعُطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به. وتكرير ضمير (الأرض) للاهتمام بها والتذكير بشأن عمرانها وحفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم وفي صرف إرادة الله تعالى عن ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار. والإفساد تقدم في قوله تعالى: {ألا إنهم هم المفسدون} [البقرة: 12]. والسفك الإراقة وقد غلب في كلامهم تعديته إلى الدماء وأما إراقة غير الدم فهي سفح بالحاء. وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب وعن الامتثال إلى العصيان فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله ثم إن النطق يستطيع إظهار خلاف الواقع وترويج الباطل، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضاً صلاح عظيم وإن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها وشرها فيحصل فعل مختلط من صالح وسيء، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة؟ وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة. وبه أيضاً تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم وإنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد، لأن في هذا القول غفلة عما ذكرناه من البيان. وأوثر التعبير بالفعل المضارع في قوله: {من يفسد} {ويسفك} لأن المضارع يدل على التجدد والحدوث دون الدوام أي من يحصل منه الفساد تارة وسفك الدماء تارة لأن الفساد والسفك ليسا بمستمرين من البشر. وقولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} دليل على أنهم علموا أن مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها وانتظام أمرها وإلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع وهم علموا مراد الله ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء بخلق الأرض وما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد، وقد دلت آيات كثيرة على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله} [محمد: 22، 23] وقال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنَّسْل واللَّهُ لا يحب الفساد} [البقرة: 205]. ولا يَرد هنا أن هذا القول غيبة وهم منزهون عنها لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف ولأنه لا غيبة في مَشُورة ونحوها كالخِطبة والتجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشارِ في شأنه من النقائص، ورجحاننِ تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحدٍ بما يَكْره، ولأن الموصوف بذلك غيرُ معين إذ الحكم على النوع، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة. و {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}. الواو متعينة للحالية إذ لا موقع للعطف هنا وإن كان ما بعد الواو من مقولهم ومحكياً عنهم لكن الواو من المَحْكِي وليست من الحكاية لأن قولهم {ونحن نسبح بحمدك} يحتْمل معنيين أحدهما أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى الله تعالى واتهامَ عِلمهم فيما أشاروا به كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسَدُّ منه رأياً وأرجح عقلاً فيشير ثم يفوّض كما قال أهل مشورة بِلْقِيس إذ قالت: {أَفْتُوني في أمري ما كنتُ قاطعة أمراً حتى تشهدون قالوا نحن أُولُوا قوة وأُولُوا بأسسٍ شديد أي الرأي أن نحاربه ونصده عما يريد من قوله {وأُتُوني مسلمين} [النمل: 31] والأمرُ إليك {فانظري ماذا تَأْمُرين} [النمل: 32، 33]، وكما يفعل التلميذ مع الأستاذ في بحثه معه ثم يصرح بأنه مَبْلغ علمه، وأن القول الفصل للأستاذ، أو هو إعلان بالتنزيه للخالق عن أن يخفى عليه ما بدا لهم من مانع استخلاف آدم، وبراءةٌ من شائبة الاعتراض، والله تعالى وإن كان يعلم براءَتهم من ذلك إلا أن كلامهم جرى على طريقة التعبير عما في الضمير من غير قصد إعلام الغير، أو لأنَّ في نفس هذا التصريح تبركاً وعبادة، أو إعْلاَن لأهل الملإ الأعلى بذلك. فإذا كان كذلك كان العطف غير جائز لأن الجملة المحكية بالقول إذا عطفت عليها جملة أخرى من القول فالشأن أن لا يقصد العطف على تقدير عامل القول إلا إذا كان القولان في وقتين كما في قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173] على أحد الوجوه في عطف جملة {نعم الوَكيل} عند من لا يَرَوْن صحة عطف الإنشاء على الخبر وإن كان الحق صحة عطف الإنشاء على الخبر وعكسه وأنه لا ينافي حُسن الكلام، فلذلك لم يكن حظ للعطف، ألا ترى أنهم إذا حَكَوا حادثاً مُلِمًّا أو مُصاباً جَمًّا أعقبوه بنحو حسبنا الله ونعم الوكيل أو إنا لله وإنا إليه راجعون أو نحو ذلك ولا يعطفون مثل ذلك فكانت الواو واو الحال للإشارة إلى أن هذا أمر مستحضر لهم في حال قولهم: {أتجعل فيها من يفسد} وليس شيئاً خطر لهم بعد أن توغلوا في الاستبعاد والاستغراب. الاحتمال الثاني: أن يكون الغرض من قولهم {ونحن نسبح بحمدك} التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف لأن الجملة الاسمية دلت على الدوام وجملة {من يفسد فيها} دلت على توقع الفساد والسفك فكان المراد أن استخلافه يقع منه صلاح وفساد والذين لا يصدر منهم عصيان مراد الله هم أولى بالاستخلاف ممن يتوقع منه الفساد فتكون حالاً مقررة لمدلول جملة {أتجعل فيها من يفسد} تكملة للاستغراب، وعاملها هو {تجعل} وهذا الذي أشار إليه تمثيل «الكشاف». والعامل في الحال هو الاستفهام لأنه مما تضمن معنى الفعل لا سيما إذا كان المقصود منه التعجب أيضاً إذ تقدير {أتجعل فيها} الخ نتعجب من جعله خليفة. والتسبيح قول أو مجموع قول مع عمل يدل على تعظيم الله تعالى وتنزيهه ولذلك سمى ذكر الله تسبيحاً، والصلاة سبحة ويطلق التسبيح على قول سبحان الله لأن ذلك القول من التنزيه وقد ذكروا أن التسبيح مشتق من السبح وهو الذهاب السريع في الماء إذ قد توسع في معناه إذ أطلق مجازاً على مر النجوم في السماء قال تعالى: {وكل في فلك يسبحون} [يس: 40] وعلى جري الفرس قالوا فلعل التسبيح لوحظ فيه معنى سرعة المرور في عبادة الله تعالى، وأظهر منه أن يكون سبح بمعنى نَسب للسبح أي البعد وأريد البعد الاعتباري وهو الرفعة أي التنزيه عن أحوال النقائص وقيل سمع سبح مخففاً غير مضاعف بمعنى نزه، ذكره في «القاموس». وعندي أن كون التسبيح مأخوذاً من السبح على وجه المجاز بعيد والوجه أنه مأخوذ من كلمة سبحان ولهذا التزموا في هذا أن يكون لوزن فعّل المضاعف فلم يسمع مخففاً. وإذا كان التسبيح كما قلنا هو قول أو قول وعمل يدل على التعظيم فتعلق قوله {بحمدك} به هنا وفي أكثر المواضع في القرآن ظاهر لأن القول يشتمل على حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه فالباء للملابسة أي نسبح تسبيحاً مصحوباً بالحمد لك وبذلك تنمحي جميع التكلفات التي فسروا بها هنا. والتقديس التنزيه والتطهير وهو إما بالفعل كما أطلق المقدس على الراهب في قول امرئ القيس يصف تعلق الكلاب بالثور الوحشي: فأدركنه يأخذن بالساق والنسا *** كما شبرق الولدان ثوب المقدس وإما بالاعتقاد كما في الحديث: «لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها» أي لا نزهها الله تعالى وطهرها من الأرجاس الشيطانية. وفعل قدس يتعدى بنفسه فالإتيان باللام مع مفعوله في الآية لإفادة تأكيد حصول الفعل نحو شكرت لك ونصحت لك وفي الحديث عند ذكر الذي وجد كلباً يلهث من العطش «فأخذ خفه فأدلاه في الركية فسقاه فشكر الله له» أي شكره مبالغة في الشكر لئلا يتوهم ضعف ذلك الشكر من أنه عن عمل حسنة مع دابة فدفع هذا الإيهام بالتأكيد باللام وهذا من أفصح الكلام، فلا تذهب مع الذين جعلوا قوله: {لك} متعلقاً بمحذوف تقديره حامدين أو هو متعلق بنسبح واللام بمعنى لأجلك على معنى حذف مفعول {نسبح} أي نسبح أنفسنا أي ننزهها عن النقائص لأجلك أي لطاعتك فذلك عدول عن فصيح الكلام، ولك أن تجعل اللام لام التبيين التي سنتعرض لها عند قوله تعالى: {واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة: 152]. فمعنى {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} نحن نعظمك وننزهك والأول بالقول والعمل والثاني باعتقاد صفات الكمال المناسبة للذات العلية، فلا يتوهم التكرار بين (نسبح) و(نقدس). وأوثرت الجملة الاسمية في قوله: {ونحن نسبح} لإفادة الدلالة على الدوام والثبات أي هو وصفهم الملازم لجبلتهم، وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي دون حرف النفي يحتمل أن يكون للتخصيص بحاصل ما دلت عليه الجملة الاسمية من الدوام أي نحن الدائمون على التسبيح والتقديس دون هذا المخلوق والأظهر أن التقديم لمجرد التقوى نحو هو يعطي الجزيل. {قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. جواب لكلامهم فهو جار على أسلوب المقاولة في المحاورات كما تقدم، أي أعلم ما في البشر من صفات الصلاح ومن صفات الفساد. واعلم أن صلاحه يحصل منه المقصد من تعمير الأرض وأن فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال وأن في ذلك كله مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب واطلاعاً على نموذج من غايات علم الله تعالى وإرادته وقدرته بما يظهره البشر من مبالغ نتائج العقول والعلوم والصنائع والفضائل والشرائع وغير ذلك. كيف ومن أبدع ذلك أن تركب الصفتين الذميمتين يأتي بصفات الفضائل كحدوث الشجاعة من بين طرفي التهور والجبن. وهذا إجمال في التذكير بأن علم الله تعالى أوسع مما علموه فهم يوقنون إجمالاً أن لذلك حكمة ومن المعلوم أن لا حاجة هنا لتقدير وما تعلمون بعد {ما لا تعلمون} لأنه معروف لكل سامع ولأن الغرض لم يتعلق بذكره وإنما تعلق بذكر علمه تعالى بما شذ عنهم. وقد كان قول الله تعالى هذا تنهية للمحاورة وإجمالاً للحجة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم وأنه حين أراد أن يجعل آدم خليفة كانت إرادته عن علم بأنه أهل للخلافة، وتأكيد الجملة بأن لتنزيل الملائكة في مراجعتهم وغفلتهم عن الحكمة منزلة المترددين.
{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)} {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا}. معطوف على قوله: {قال إني أعلم م لا تعلمون} [البقرة: 30] عطف حكاية الدليل التفصيلي على حكاية الاستدلال الإجمالي الذي اقتضاه قوله: {إني أعلم ما لا تعلموت} فإن تعليم آدم الأسماء وإظهار فضيلته بقبوله لهذا التعليم دون الملائكة جعله الله حجة على قوله لهم {إني أعلم ما لا تعلمون أي ما لا تعلمون} من جدارة هذا المخلوق بالخلافة في الأرض، وعطف ذكر آدم بعد ذكر مقالة الله للملائكة وذكر محاورتهم يدل على أن هذا الخليفة هو آدم وأن آدم اسم لذلك الخليفة وهذا الأسلوب من بديع الإجمالي والتفصيل والإيجاز كما قال النابغة: فقلت لهم لا أعرفن عقائلا *** رعابيب من جنبي أريك وعاقل الأبيات. ثم قال بعدها: وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعل في ذي المطارة عاقل مخافة عمرو أن تكون جياده *** يقدن إلينا بين حاففٍ وناعل فدل على أن ما ذكره سالفاً من العقائل التي بين أريك وعاقل ومن الأنعام المغتنمة هو ما يتوقع من عزو عمرو بن الحرث الغساني ديار بني عوف من قومه. وآدم اسم الإنسان الأول أبي البشر في لغة العرب وقيل منقول من العبرانية لأن أداماً بالعبرانية بمعنى الأرض وهو قريب لأن التوراة تكلمت على خلق آدم وأطالت في أحواله فلا يبعد أن يكون اسم أبي البشر قد اشتهر عند العرب من اليهود وسماع حكاياتهم، ويجوز أن يكون هذا الاسم عرف عند العرب والعبرانيين معاً من أصل اللغات السامية فاتفقت عليه فروعها. وقد سمي في سفر التكوين من التوراة بهذا الاسم آدم ووقع في «دائرة المعارف العربية» أن آدم سمى نفسه إيش (أي ذا مقتني) وترجمته إنسان أو قرء. قلت ولعله تحريف (إيث) كما ستعلمه عند قوله تعالى: {اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة: 35]. وللإنسان الأول أسماء أُخر في لغات الأمم وقد سماه الفرس القدماء «كيومرتْ» بفتح الكاف في أوله وبتاء مثناة فوقية في آخره، ويسمى أيضاً «كيامَرِتن» بألف عوق الواو وبكسر الراء وبنون بعد المثناة الفوقية، قالوا إنه مكث في الجنة ثلاثة آلاف سنة ثم هبط إلى الأرض فعاش في الأرض ثلاثة آلاف سنة أخرى، واسمه في العبرانية (آدم) كما سمي في التوراة وانتقل هذا الاسم إلى اللغات الأفرنجية من كتب الديانة المسيحية فسموه (آدام) بإشباع الدال، فهو اسم على وزن فَاعَل صيغ كذلك اعتباطاً وقد جمع على أوادم بوزن فَواعل كما جمع خَاتَم وهذا الذي يشير إليه صاحب «الكشاف» وجعل محاولة اشتقاقه كمحاولة اشتقاق يعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس ونحو ذلك أي هي محاولة ضئيلة وهو الحق. وقال الجوهري أصله أَأْدم بهمزتين على وزن أفْعَل من الأدمة وهي لون السمرة فقلبت ثانية الهمزتين مَدة ويبعده الجمع وإن أمكن تأويله بأن أصله أَأَادم فقلبت الهمزة الثانية في الجمع واواً لأنها ليس لها أصل كما أجاب به الجوهري. ولعل اشتقاق اسم لَون الأدمة من اسم آدم أقرب من العكس. والأسماء جمع اسم وهو في اللغة لفظ يدل على معنى يفهمه ذهن السامع فيختص بالألفاظ سواء كان مدلولها ذاتاً وهو الأصل الأول، أو صفة أو فعلاً فيما طرأ على البشر الاحتياج إليه في استعانة بعضهم ببعض فحصل من ذلك ألفاظ مفردة أو مركبة وذلك هو معنى الاسم عرفا إذ لم يقع نقل. فما قيل إن الاسم يطلق على ما يدل على الشيء سواء كان لفظه أو صفتَه أو فعلَه توهم في اللغة. ولعلهم تطوحوا به إلى أن اشتقاقه من السمة وهي العلامة، وذلك على تسليمه لا يقتضي أن يبقى مساوياً لأصل اشتقاقه. وقد قيل هو مشتق من السمو لأنه لما دل على الذات فقد أبرزها. وقيل مشتق من الوَسم لأنه سمة على المدلول. والأظهر أنه مشتق من السُّمُو وأن وزنه سِمْو بكسر السين وسكون الميم لأنهم جمعوه على أسماء ولولا أن أصله سِمْو لما كان وجه لزيادة الهمزة في آخره فإنها مبدلة عن الواو في الطرف إثر ألف زائدة ولكانوا جمعوه على أوْسام. والظاهر أن الأسماء التي عُلمها آدم هي ألفاظ تدل على ذوات الأشياء التي يحتاج نوع الإنسان إلى التعبير عنها لحاجته إلى ندائها، أو استحضارها، أو إفادة حصول بعضها مع بعض، وهي أي الإفادة ما نسميه اليوم بالأخبار أو التوصيف فيظهر أن المراد بالأسماء ابتداءً أسماءُ الذوات من الموجودات مثل الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس من الحيوان والنبات والحجر والكواكب مما يقع عليه نظر الإنسان ابتداء مثل اسم جَنة، وملك، وآدم، وحواء، وإبليس، وشجرة وثمرة، ونجد ذلك بحسب اللغة البشرية الأولى ولذلك نرجح أن لا يكون فيما عُلمه آدم ابتداء شيء من أسماء المعاني والأحداث ثم طرأت بعد ذلك فكان إذا أراد أن يخبر عن حصول حدَث أو أمر معنوي لذات، قَرَن بين اسم الذات واسم الحدث نحو ماءْ بَرْدْ أي ماء بارد ثم طرأ وضع الأفعال والأوصاف بعد ذلك فقال الماءْ باردْ أو بَرَد الماء، وهذا يرجح أن أصل الاشتقاق هو المصادر لا الأفعال لأن المصادر صنف دقيق من نوع الأسماء وقد دلنا على هذا قوله تعالى: {ثم عرضهم} كما سيأتي. والتعريف في (الأسماء) تعريف الجنس أريد منه الاستغراق للدلالة على أنه عَلَّمه جميع أسماء الأشياء المعروفة يومئذٍ في ذلك العالم فهو استغراق عرفي مثل جمَمَع الأمير الصاغَةَ أي صاغة أَرضه، وهو الظاهر لأنه المقدار الذي تظهر به الفضيلة فما زاد عليه لا يليق تعليمُه بالحكمة وقدرةُ الله صالحة لذلك. وتعريف الأسماء يفيد أن الله علم آدم كل اسم ما هُو مسماه ومدلوله، والإتيان بالجمع هنا متعين إذ لا يستقيم أن يقول وعلم آدم الاسم، وما شاع من أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع في المعرف باللام كلامٌ غير محرر، وأصله مأخوذ من كلام السكاكي وسنحققه عند قوله تعالى: {ولكنَّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتابِ} [البقرة: 177] في هذ السورة. و {كلَّها} تأكيد لمعنى الاستغراق لئِلا يتوهم منه العهد فلم تزد كلمة كل العمومَ شمولاً ولكنها دفعت عنه الاحتمال. (وكُل) اسم دال على الشمول والإحاطة فيما أضيف هو إليه وأكثر ما يَجئ مضافاً إلى ضمير ما قبله فيُعرب توكيداً تابعاً لما قبله ويكون أيضاً مسْتقلاً بالإعراب إذا لم يقصد التوكيد بل قُصدت الإحاطة وهو ملازم للإضافة لفظاً أو تقديراً فإذا لم يذكر المضاف إليه عُوض عنه التنوين ولكونه ملازماً للإضافة يعتبر معرفة بالإضافة فلا تدخل عليه لام التعريف. وتعليم الله تعالى آدمَ الأسماء إما بطريقة التلقين بعرض المسمى عليه فإذا أراه لُقن اسمه بصوت مخلوق يسمعه فيعلم أن ذلك اللفظ دال على تلك الذات بعلم ضروري، أو يكون التعليم بإلقاء علم ضروري في نفس آدم بحيث يخطر في ذهنه اسم شيء عند ما يعرض عليه فيضع له اسماً بأنْ ألهمه وضع الأسماء للأشياء ليمكنه أن يفيدها غيره وذلك بأن خلق قوةَ النطق فيه وجعله قادراً على وضع اللغة كما قال تعالى: {خلق الإنسان علمه البيان} [الرحمن: 2، 3] وجميع ذلك تعليم إذ التعليم مصدر علَّمه إذا جعله ذَا علم مثل أدَّبه فلا ينحصر في التلقين وإِنْ تبادَر فيه عرفاً. وأيَّاً ما كانت كيفية التعليم فقد كان سبباً لتفضيل الإنسان على بقية أنواع جنسه بقوة النطق وإحداث الموضوعات اللغوية للتعبير عما في الضمير. وكان ذلك أيضاً سبباً لتفاضل أفراد الإنسان بعضهم على بعض بما ينشأ عن النطق من استفادة المجهول من المعلوم وهو مبدأ العلوم، فالإنسان لما خُلق ناطقاً معبراً عما في ضميره فقد خُلق مدركاً أي عالماً وقد خلق معلماً، وهذا أصل نشأة العلوم والقوانين وتفاريعها لأنك إذا نظرت إلى المعارف كلها وجدتها وضع أسماء لمسميات وتعريفَ معاني تلك الأسماء وتحديدها لتسهيل إيصال ما يحصل في الذهن إلى ذهن الغير. وكلا الأمرين قد حُرِمه بقية أنواع الحيوان، فلذلك لم تتفاضل أفراده إلا تفاضلاً ضعيفاً بحسن الصورة أو قوة المنفعة أو قلة العجمة بلْهَ بقية الأجناس كالنبات والمعدن. وبهذا تعلم أن العبرة في تعليم الله تعالى آدم الأسماء حاصلة سواء كان الذي علَّمه إياه أسماءَ الموجودات يومئذٍ أو أسماء كل ما سيوجد، وسواء كان ذلك بلغة واحدة هي التي ابتدأَ بها نطق البشر منذ ذلك التعليم أم كان بجميع اللغات التي ستنطق بها ذرياته من الأمم، وسواء كانت الأسماء أسماء الذوات فقط أو أسماء المعاني والصفات، وسواء كان المراد من الأسماء الألفاظَ الدالة على المعاني أو كل دال على شيء لفظاً كان أو غيره من خصائص الأشياء وصفاتها وأفعالها كما تقدم إذ محاولة تحقيق ذلك لا طائل تحته في تفسير القرآن. ولعل كثيراً من المفسرين قد هان عندهم أن يكون تفضيل آدم بتعليم الله متعلقاً بمعرفة عدد من الألفاظ الدالة على المعاني الموجودة فراموا تعظيم هذا التعليم بتوسيعه وغفلوا عن موقع العبرة ومِلاككِ الفضيلة وهو إيجاد هاته القوة العظيمة التي كان أولها تعليم تلك الأسماء، ولذلك كان إظهار عجز الملائكة عن لحاق هذا الشأو بعدم تعليمهم لشيء من الأسماء، ولو كانت المزية والتفاضل في تعليم آدم جميع ما سيكون من الأسماء في اللغات لكفى في إظهار عجز الملائكة عدم تعليمهم لجمهرة الأسماء وإنما علم آدم أسماء الموجودات يومئذٍ كلها ليكون إنباؤه الملائكة بها أبهر لهم في فضيلته. وليس في هذه الآية دليل على أن اللغات توقيفية أي لَقَّنَها الله تعالى البشر على لسان آدم ولا على عدمه لأن طريقة التعليم في قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء} مجملة محتملة لكيفيات كما قدمناه. والناس متفقون على أن القدرة عليها إلهام من الله وذلك تعليم منه سواء لقن آدم لغة واحدة أو جميع لغات البشر وأسماء كل شيء أو ألهمه ذلك أو خلق له القوة الناطقة، والمسألة مفروضة في علم الله وفي أصول الفقه وفيها أقوال ولا أثر لهذا الاختلاف لا في الفقه ولا في غيره قال المازري «إلا في جواز قلب اللغة والحق أن قلب الألفاظ الشرعية حرام وغيره جائز» ولقد أصاب المازري وأخطأ كل من رام أن يجعل لهذا الخلاف ثمرة غير ما ذكر، وفي استقراء ذلك ورده طول، وأمره لا يخفى عن سالمي العقول. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صادقين}. قيل عطفه بثم لأن بين ابتداء التعليم وبين العرض مهلة وهي مدة تلقين الأسماء لآدم أو مدة إلهامه وضع الأسماء للمسميات. والأظهر أن (ثم) هنا للتراخي الرتبي كشأنها في عطفها الجمل لأن رتبة هذا العرض وظهور عدم علم الملائكة وظهور علم آدم وظهور أثر علم الله وحكمته كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية آدم واستحقاقه الخلافة، من رتبة مجرد تعلمه الأسماء لو بقي غير متصل به ما حدث من الحادثة كلها. ولما كان مفهوم لفظ (اسم) من المفهومات الإضافية التي يتوقف تعقلها على تعقل غيرها إذ الاسم لا يكون إلا لمسمى كان ذكر الأسماء مشعراً لا محالة بالمسميات فجاز للبليغ أن يعتمد على ذلك ويحذف لفظ المسميات إيجازاً. وضمير {عرضهم} للمسميات لأنها التي تعرض بقرينة قوله: {أنيئوني بأسماء هؤلاء} وبقرينة قوله: {وعلم آدم الأسماء كلها}، فإن الاسم يقتضي مسمى وهذا من إيجاز الحذف وأما الأسماء فلا تعرض لأن العرض إظهار الذات بعد خفائها ومنه عرض الشيء للبيع ويوم العرض والألفاظ لا تظهر فتعين أن المعروض مدلولات الأسماء إما بأن تعرض صور من الذوات فقط ويسأل عن معرفة أسمائها أي معرفة الألفاظ الدالة عليها، أو عن بيان مواهيها وخصائصها وإما بأن تعرض الذوات والمعاني بخلق أشكال دالة على المعاني كعرض الشجاعة في صورة فعل صاحبها والعلم في صورة إفاضة العالم في درسه أو تحريره كما نرى في الصور المنحوتة أو المدهونة للمعاني المعقولة عند اليونان والرومان والفرس والصور الذهنية عند الإفرنج، بحيث يجد الملائكة عند مشاهدة تلك الهيئة أن المعروض معنى شجاعة أو معنى علم ويقرب ذلك ما يحصل في المرائي الحلمية. والحاصل أن الحال المذكورة في الآية حالة عالم أوسع من عالم المحسوسات والمادة. وإعادة ضمير المذكر العاقل على المسميات في قوله: {عرضهم} للتغليب لأن أشرف المعروضات ذوات العقلاء وصفاتهم على أن ورود مثله بالألفاظ التي أصلها للعقلاء طريقة عربية نحو قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً} [الإسراء: 36]. والداعي إلى هذا أن يعلم ابتداء أن المعروض غير الأسماء حتى لا يضل فهم السامع قبل سماع قرينة {أنبئوني بأسماء هؤلاء}. وقوله تعالى: {فقال أنبئوني} تفريع على العرض وقرن بالفاء لذلك. والأمر في قوله: {أنبئوني} أمر نعجيز بقرينة كون المأمور يعلم أن الآمر عالم بذلك فليس هذا من التكليف بالمحال كما ظنه بعض المفسرين. واستعمال صيغة الأمر في التعجيز مجاز، ثم إن ذلك المعنى المجازي يستلزم علم الآمر بعجز المأمور وذلك يستلزم علم الآمر بالمأمور به. والإنباء الإخبار بالنبأ وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة والأهمية بحيث يحرص السامعون على اكتسابه، ولذلك تضمن الإنباء معنى الإعلام لأن المخبر به يعد مما يعلم ويعتقد بوجه أخص من اعتقاد مطلق الخبر فهو أخص من الخبر. وقوله: {إن كنتم صادقين} إما أراد به إن كنتم صادقين في أنكم أفضل من هذا المخلوق إن كان قولهم: {ونحن نسبح} الخ تعريضاً بأنهم أحقاء بذلك، أو أراد إن كنتم صادقين في عدم جدارة آدم بالخلافة كما دل عليه قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] كان قولهم: {ونحن نسبح بحمدك} [البقرة: 30] لمجرد التفويض أو الإعلان للسامعين من أهل الملأ الأعلى بالبراءة من شائبة الاعتراض على ما اخترناه. ووجه الملازمة بين الإنباء بالأسماء وبين صدقهم فيما ادعوه التي اقتضاها ربط الجزاء بالشرط أن العلم بالأسماء عبارة عن القوة الناطقة الصالحة لاستفادة المعارف وإفادتها، أو عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وخصائصها، أو عبارة عن معرفة أسماء الذوات والمعاني، وكل ذلك يستلزم ثبوت العالمية بالفعل أو بالقوة، وصاحب هذا الوصف هو الجدير بالاستخلاف في العالم لأن وظيفة هذا الاستخلاف تدبير وإرشاد وهدى ووضع الأشياء مواضعها دون احتياج إلى التوقيف في غالب التصرفات، وكل ذلك محتاج إلى القوة الناطقة أو فروعها، والقوى الملكية على شرفها إنما تصلح لأعمال معينة قد سخرت لها لا تعدوها ولا تتصرف فيها بالتحليل والتركيب، وما يذكر من تنوع تصرفها وصواب أعمالها إنما هو من توجيه الله تعالى إياها وتلقينه المعبر عنه بالتسخير، وبذلك ظهر وجه ارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط وقد تحير فيه كثير. وإذا انتفى الإنباء انتفى كونهم صادقين في إنكارهم خلافة آدم، فإن كان محل الصدق هو دعواهم أنهم أجدر فقد ثبت عدمها، وإن كان محل التصديق هو دعواهم أن البشر غير صالح للاستخلاف فانتفاء الإنباء لا يدل على انتفاء دعواهم ولكنه تمهيد له لأن بعده إنباء آدم بالأسماء لأن المقام مؤذن بأنهم لما أمروا أمر تعجيز وجعل المأمور به دلالة على الصدق كان وراء ذلك إنباء آخر مترقباً من الذي طعنوا في جدارته ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} جرد {قالوا} من الفاء لأنه محاورة كما تقدم عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] وافتتاح كلامهم بالتسبيح وقوف في مقام الأدب والتعظيم لذي العظمة المطلقة، وسبحان اسم التسبيح وقد تقدم عند قوله: {ونحن نسبح بحمدك} [البقرة: 30] وهو اسم مصدر سَبَّحَ المضاعف وليس مصدراً لأنه لم يجئ على أبنية مصادر الرباعي وقيل هو مصدر سَبَحَ مخففاً بمعنى نزه فيكون كالغفران والشكران، والكفران من غفر وشكر وكفر وقد كثر استعماله منصوباً على المفعولية المطلقة بإضمار فعله ك {معاذ الله} [يوسف: 23] وقد يخرج عن ذلك نادراً قال: «سبحانك اللهم ذا السبحان» وكأنهم لما خصصوه في الاستعمال بجعله كالعلم على التنزيه عدلوا عن قياس اشتقاقه فصار سبحان كالعلم الجنسي مثل برة وفجار بكسر الراء في قول النابغة: فحملتُ برّة واحتملتُ فجارِ *** ومنعوه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال سيبويه: وأما ترك تنوين (سبحان) فلأنه صار عندهم معرفة وقول الملائكة: {لا علم لنا إلا ما علمتنا} خبر مراد منه الاعتراف بالعجز لا الإخبار عن حالهم لأنهم يوقنون أن الله يعلم ما تضمنه كلامهم. ولا أنهم قصدوا لازم الفائدة وهي أن المخبر عالم بالخبر فتعين أن الخبر مستعمل في الاعتراف. ثم إن كلامهم هذا يدل على أن علومهم محدودة غير قابلة للزيادة فهي مقصورة على ما ألهمهم الله تعالى وما يأمرهم، فللملائكة علم قبول المعاني لا علم استنباطها. وفي تصدير كلامهم بسبحانك إيماء إلى الاعتذار عن مراجعتهم بقولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] فهو افتتاح من قبيل براعة الاستهلال عن الاعتذار. والاعتذار وإن كان يحصل بقولهم: {لا علم لنا إلا ما علمتنا} لكن حصول ذلك منه بطريق الكناية دون التصريح ويحصل آخراً لا ابتداء فكان افتتاح كلامهم بالتنزيه تعجيلاً بما يدل على ملازمة جانب الأدب العظيم {إنك أنت العليم الحكيم} ساقوه مساق التعليل لقولهم {لا علم لنا إلا ما علمتنا} لأن المحيط علمه بكل شيء المحكم لكل خلق إذا لم يجعل لبعض مخلوقاته سبيلاً إلى علم شيء لم يكن لهم قبل بعلمه إذ الحصول بقدر القبول والاستعداد أي فلا مطمع لنا في تجاوز العلم إلى ما لم تهيئ لنا علمه بحسب فطرتنا. والذي دل على أن هذا القول مسوق للتعليل وليس مجرد ثناء هو تصديره بإن في غير مقام رد إنكار ولا تردد. قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» ومن شأن إنَّ إذا جاءت على هذا الوجه (أي أن تقع إثر كلام وتكون لمجرد الاهتمام) أن تغني غناء الفاء العاطفة (مثلاً) وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمراً عجيباً فأنت ترى الكلام بها مقطوعاً موصولاً، وأنشد قول بشار: بَكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهجير *** إنَّ ذاك النجاح في التبكير وقول بعض العرب: فغنِّها وهي لك الفِداء *** إِنَّ غِناء الإبل الحُدَاء فإنهما استغنيا بذكر إنَّ عن الفاء، وإن خلفاً الأحمر لما سأل بشاراً لماذا لم يقل: «بكرا فالنجاح في التبكير» أجابه بشار بأنه أتى بها عربية بدوية ولو قال: «فالنجاح» لصارت من كلام المولدين (أي أجابه جواباً أحاله فيه على الذوق) وقد بين الشيخ عبد القاهر سبَبه. وقال الشيخ في موضع آخر ألا ترى أن الغرض من قوله: «إن ذاك النجاح في التبكير» أن يبيَّن المعنى في قوله لصاحبيه «بكرا» وأن يحتج لنفسه في الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة منه» ا ه. (والعليم) الكثير العلم وهو من أمثلة المبالغة على الصحيح ويجوز كونه صفة مشبهة على تقدير تحويل علِم المكسور اللام إلى علُم بضم اللام ليصير من أفعال السجايا نحو ما قررناه في الرحيم ونحن في غنية عن هذا التكلف إذ لا ينبغي أن يبقى اختلاف في أن وزن فعيل يجيئ لمعنى المبالغة وإنما أنشأ هذه التمحلات من زعموا أن فعيلاً لا يجيء للمبالغة. (الحكيم) فعيل من أَحكم إذا أتقن الصنع بأن حاطه من الخلل. وأصل مادة حكم في كلام العرب للمنع من الفساد والخلل ومنه حكمة الدابة (بالتحريك) للحديدة التي توضع في فم الفرس لتمنعه من اختلال السير، وأحكم فلان فلاناً منعه قال جرير: أبني حنيفة أحكموا سُفهَاءكم *** إني أَخافُ عليكم أن أَغْضَبا والحكمة بكسر الحاء ضبط العلم وكماله، فالحكيم إما بمعنى المتقن للأمور كلها أو بمعنى ذي الحكمة وأيّاً ما كان فقد جرى بوزن فعيل على غير فعل ثلاثي وذلك مسموع قال عمرو بن معديكرب: أمن رَيحانة الدَّاعي السَّميع *** يؤرقُني وأصحابي هجوع ومن شواهد النحو ما أنشده أبو علي ولم يعزه: فمن يك لم يُنجِب أبوه وأمه *** فإن لنا الأمَّ النجيبةَ والأبُ أراد الأم المنجبة بدليل قوله لم ينجب أبوه وفي القرآن {بديع السماوات والأرض} [البقرة: 117] ووَصف الحكيم والعرب تجري أوزان بعض المشتقات على بعض فلا حاجة إلى التكلف بتأول {بديع السماوات والأرض} ببديع سماواته وأرضه أي على أن (أل) عوض عن المضاف إليه فتكون الموصوف بحكيم هو السماوات والأرض وهي محكمة الخلق فإن مساق الآية تمجيد الخالق لا عجائب مخلوقاته حتى يكون بمعنى مفعول، ولا إلى تأويل الحكيم بمعنى ذي الحكمة لأن ذلك لا يجدي في دفع بحث مجيئه من غير ثلاثي. وتعقيب العليم بالحكيم من إتباع الوصف بأخص منه فإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لأن الحكمة كمال في العلم فهو كقولهم خطيب مصقع وشاعر مفلق. وفي «معارج النور» للشيخ لطف الله الأرضرومي: وفي الحكيم ذو الحكمة وهي العلم بالشيء وإتقان عمله وهو الإيجاد بالنسبة إليه والتدبير بأكمل ما تستعد له ذات المدبر (بفتح الباء) والاطلاع على حقائق الأمور ا ه. وقال أبو حامد الغزالي في «المقصد الأسنى»: الحكيم ذو الحكمة والحكمة عبارة عن المعرفة بأفضل الأشياء، فأفضل العلوم العلم بالله وأجل الأشياء هو الله وقد سبق أنه لا يعرفه كنه معرفته غيره وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي القديم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء، ولا شبهة ولا يتصور ذلك إلا في علم الله ا ه. وسيجئ الكلام على الحكمة عند قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269]. و {أنت} في {إنك أنت العليم الحكيم} ضمير فصل، وتوسيطه من صيغ القصر فالمعنى قصر العلم والحكمة على الله قصر قلب لردهم اعتقادهم أنفسهم أنهم على جانب من علم وحكمة حين راجعوا بقولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] أو تنزيلهم منزلة من يعتقد ذلك على الاحتمالين المتقدمين، أو هو قصر حقيقي ادعائي مراد منه قصر كمال العلم والحكمة عليه تعالى.
{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} {قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ}. لما دخل هذا القول في جملة المحاورة جردت الجملة من الفاء أيضاً كما تقدم في نظائره لأنه وإن كان إقبالاً بالخطاب على غير المخاطَبين بالأقوال التي قبله فهو بمثابة خطاب لهم لأن المقصود من خطاب آدم بذلك أن يَظهر عقبَه فضلُه عليهم في العلم من هاته الناحية فكانَ الخطاب بمنزلة أن يكون مسوقاً إليهم لقوله عقب ذلك: {قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض}. وابتداء خطاب آدم بندائه مع أنه غير بعيد عن سماع الأمر الإلهي للتنويه بشأن آدم وإظهار اسمه في الملأ الأعلى حتى ينال بذلك حسن السمعة مع ما فيه من التكريم عند الآمر لأن شأن الآمر والمخاطِب بالكسر إذا تلطف مع المخاطَب بالفتح أن يذكر اسمه ولا يقتصر على ضمير الخطاب حتى لا يساوي بخطابه كل خطاب، ومنه ما جاء في حديث الشفاعة بعد ذكر سجود النبيء وحمده الله بمحامد يلهمه إياها فيقول: «يا محمد ارفع رأسك سل تُعْطَ واشفع تشفَّع» وهذه نكتة ذكر الاسم حتى في أثناء المخاطبة كما قال امرؤ القيس: أفاطم مهلاً بعضَ هذا التدلل *** وربما جعلوا النداء طريقاً إلى إحضار اسمه الظاهر لأنه لا طريق لإحضاره عند المخاطبة إلا بواسطة النداء فالنداء على كل تقدير مستعمل في معناه المجازي. {فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم}. الإنباء إخبارهم بالأسماء، وفيه إيماء بأن المخبر به شيء مهم. والضمير المجرور بالإضافة ضمير المسميات مثل ضمير {عرضهم}، وفي إجرائه على صيغة ضمائر العقلاء ما قرر في قوله: {ثم عرضهم} [البقرة: 31]. وقوله: {فلما أنبأهم بأسمائهم} الضمير في (أنبأ) لآدم وفي (قال) ضمير اسم الجلالة وإنما لم يؤت بفاعله اسماً ظاهراً مع أنه جرى على غير من هو له أي عقب ضمائر آدم في قوله: {أنبئهم} و{أنبأهم} لأن السياق قرينة على أن هذا القول لا يصدر من مثل آدم. {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض}. جواب (لما) والقائل هو الله تعالى وهو المذكور في قوله: {وإذ قال ربك} [البقرة: 30] وعادت إليه ضمائر {قال إني أعلم} [البقرة: 30] و{علّم} [البقرة: 31] و{عرضهم} وما قبله من الضمائر وهو تذكير لهم بقوله لهم في أول المحاورة: {إني أعلم ما لا تعلمون} وذلك القول وإن لم يكن فيه: {أعلم غيب السموات والأرض} صراحة إلا أنه يتضمنه لأن عموم {ما لا تعلمون} يشمل جميع ذلك فيكون قوله هنا: {إني أعلم غيب السموات والأرض} بياناً لما أجمل في القول الأول لأنه يساويه ما صدقا لأن {ما لا تعلمون} هو غيب السموات والأرض وقد زاد البيان هنا على المبين بقوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}. وإنما جيء بالإجمال قبل ظهور البرهان وجيء بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحِجاج وهو إجمال الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعى أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن يتبجح عليه بسلطان برهانه فإن للحق صولة. ونظيره قول صاحب موسى: {سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً أما السفينة} [الكهف: 78، 79] إلى قوله: {وما فعلته عن أمري} [الكهف: 82] ثم قال: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً} [الكهف: 82]. فجاء باسم إشارة البعيد تعظيماً للتأويل بعد ظهوره. وهذه طريقة مسلوكة للكتاب والخطباء وهي ترجع إلى قاعدة أخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء كما بينته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة» وأكثر الخطباء يفضي إلى الغرض من خطبته بعد المقدمات والتمهيدات وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء فيما ذكرنا تعليماً للخلق وجرياً على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية فإن الملائكة لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين. و {كُنتُمْ} في قوله: {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} الأظهر أنها زائدة لتأكيد تحقق الكتمان فإن الذي يعلم ما اشتد كتمانه يعلم ما لم يحرص على كتمانه ويعلم ظواهر الأحوال بالأولى. وصيغة المضارع في {تُبْدُونَ} و{تَكْتُمُونَ} للدلالة على تجدد ذلك منهم فيقتضي تجدد علم الله بذلك كلما تجدد منهم. ولبعضهم هنا تكلفات في جعل {كنتم} للدلالة على الزمان الماضي وجعل {تبدون} للاستقبال وتقدير اكتفاء في الجانبين أعني وما كنتم تبدون وما تكتمون واكتفاء في غيب السماوات والأرض يعني وشهادتهما وكل ذلك لا داعي إليه. وقد جعل الله تعالى علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشري لخلافته في الأرض دون الملائكة لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله تعالى في القيام بما أراده من العُمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائماً مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر، ولا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ولا يصلح لهذا العِلم إلا القوةُ الناطقة وهي قوة التفكير التي أجلَى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها والتي تستطيع أن تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولاتقف معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى. والملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أَعْجَزَهم وضع الأسماء للمسميات وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف لم يكونوا مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم. ولم يكونوا مصادر للشرور التي يتعين صدورها لإصلاح العالم فخيرتهم وإن كانت صالحة لاستقامة عالمهم الطاهر لم تكن صالحة لنظام عالم مخلوط، وحكمة خلطه ظهور منتهى العلم الإلهي كما قال أبو الطيب: ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا *** مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندَى والآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب وفي فضل العلم ولكنها لا تدل على أفضلية النوع البشري على الملائكة إذ المزية لا تقتضي الأفضلية كما بينه الشهاب القراقي في الفرق الحادي والتسعين فهذه فضيلة من ناحية واحدة وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموعَ الفضائل كما دل عليه حديث موسى والخضر. والاستفهام في قوله: {ألم أقل لكم} إلخ تقريري لأن ذلك القول واقع لا محالة والملائكة لا يعلمون وقوعه ولا ينكرونه. وإنما أوقع الاستفهام على نفي القول لأن غالب الاستفهام التقريري يقحم فيه ما يفيد النفي لقصد التوسيع على المقرَّر حتى يُخيَّل إليه أنه يُسأل عن نفي وقوع الشيء فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسَّع المقرِّر عليه ذلك ولكنه يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره فلذلك يقرره على نفيه، فإذا أقر كان إقراره لازماً له لا مناص له منه. فهذا قانون الاستفهام التقريري الغالب عليه وهو الذي تكرر في القرآن وبنى عليه صاحب «الكشاف» معاني آياته التي منها قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 106] وتوقف فيه ابن هشام في «مغني اللبيب» ورده عليه شارحه. وقد يقع التقرير بالإثبات على الأصل نحو: {أأنت قلتَ للناس} [المائدة: 116] وهو تقرير مُراد به إبطال دعوى النصارى، وقوله: {قالوا أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا يا إبراهيم} [الأنبياء: 62].
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} عطف على جملة {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] عطفَ القصة على القصة. وإعادة (إذ) بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه تنبيهٌ على أن الجملة مقصودة بذاتها لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام، ولأجل هذه المراعاة لم يؤت بهذه القصة معطوفة بفاء التفريع فيقول: {فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وإن كان مضمونها في الواقع متفرعاً على مضمون التي قبلها فإن أمرهم بالسجود لآدم ما كان إلا لأجل ظهور مزيته عليهم إذ علم ما لم يعلموه وذلك ما اقتضاه ترتيب ذكر هذه القصص بعضها بعد بعض ابتداء من خلق السماوات والأرض وما طرأَ بعده من أطوار أصول العامرين الأرض وما بينها وبين السماء فإنْ الأصل في الكلام أن يكون ترتيب نظمه جارياً على ترتيب حصول مدلولاته في الخارج ما لم تُنصب قرينة على مخالفة ذلك. ولا يريبك قوله تعالى في سورة الحِجر (28، 29) {إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون} فإذا سويتُه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين لأن تلك حَكَتْ القصة بإجمال فطوتْ أَنباءها طيًّا جاء تبيينه في ما تكرر منها في آيات أخرى وأوضحها آية البقرة لاقتضاء الآية السابقة أن فضيلة آدم لم تظهر للملائكة إلا بعد تعليمه الأسماءَ وَعَرْضِها عليهم وعجزهم عن الإنباء بها وأنهم كانوا قبل ذلك مترقبين بيان ما يكشف ظنهم بآدم أن يكون مفسداً في الأرض بعد أن لازموا جانب التوقف لما قال الله لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، فكان إنباء آدم بالأسماء عند عجزهم عن الإنباء بها بياناً لكشف شبهتهم فاستحقوا أن يأتوا بما فيه معذرة عن عدم علمهم بحقه. وقد أريد من هذه القصة إظهارُ مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عَنْ فائدة من وجوده في هذا العالم؛ وإظهارُ فضيلة المعرفة، وبيانُ أن العالم حقيق بتعظيم مَن حوله إياه وإظهارُ ما للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد، وبيانُ أن الاعتراف بالحق من خصال الفضائل الملائكية، وأن الفساد والحسد والكبِر من مذام ذوي العقول. والقول في إعراب (إذْ) كالقول الذي تقدم في تفسير قوله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]. وإظهار لفظ الملائكة ولفظ آدم هنا دون الإتيان بضميريهما كما في قوله: {قالوا سبحانك} [البقرة: 32] وقوله: {فلما أنبأهم} [البقرة: 33] لتكون القصة المعطوفة معنونة بمثل عنوان القصة المعطوف عليها إشارة إلى جدارة المَعْطُوفة بأن تكون قصة مقصورة غير مندمجة في القصة التي قبلها. وغُير أسلوبُ إسناد القول إلى الله فأُتي به مسنداً إلى ضمير العظمة {وإذ قلنا} وأُتي به في الآية السابقة مسنداً إلى رب النبيء {وإذ قال ربك} [البقرة: 30] للتفنن ولأن القول هنا تضمن أمراً بفعللٍ فيه غضاضة على المأمورين فناسبه إظهار عظمة الآمر، وأما القول السابق بمجرد إعلام من الله بمراده ليظهرَ رأيهم، ولقصد اقتران الاستشارة بمبدأ تكوين الذات الأولى من نوع الإنسان المحتاج إلى التشاور فناسبه الإسناد إلى الموصوف بالربوبية المؤذنة بتدبير شأن المربوبين. وأضيف إلى ضمير أشرف المربوبين وهو النبيء صلى الله عليه وسلم كما تقدم عند قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. وحقيقة السجود طأطأة الجسد أو إِيقاعه على الأرض بقصد التعظيم لمشاهَد بالعيان كالسجود للملك والسيد والسجود للكواكب، قال تعالى: {وخروا له سجَّداً} [يوسف: 100]، وقال {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} [فصلت: 37] وقال الأعشى: فلما أتانا بُعَيْد الكرى *** سجَدْنا له وخلَعْنَا العِمارا وقال أيضاً: يراوح من صلوات الملي *** ك طوراً سُجوداً وطوراً جؤاراً أو لمشاهد بالتخيل والاستحضار وهو السجود لله، قال تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62]. والسجود ركن من أركان الصلاة في الإسلام. وأما سجود الملائكة فهو تمثيل لحالة فيهم تدل على تعظيم، وقد جمع معانيه قوله تعالى: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} [النحل: 49]. فكان السجود أول تحية تلقاها البشر عند خلق العالم. وقد عرف السجود منذ أقدم عصور التاريخ فقد وجد عى الآثار الكلدانية منذ القرن التاسع عشر قبل المسيح صورة حمورابي ملك كلدية راكعاً أمام الشمس، ووجدت على الآثار المصرية صور أسرى الحرب سجداً لفرعون، وهيآت السجود تختلف باختلاف العوائد. وهيئة سجود الصلاة مختلفة باختلاف الأديان. والسجود في صلاة الإسلام الخُرور على الأرض بالجبهة واليدين والرجلين. وتعدية {اسجدوا} لاسم آدم باللام دال على أنهم كلفوا بالسجود لذاته وهو أصل دلالة لام التعليل إذا علق بمادة السجود مثل قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} [النجم: 62] وقوله: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} [فصلت: 37] ولا يعكر عليه أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ ما كان في الشرائع الأخرى ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى وليس ذلك بداخل تحت تكاليف أهل الأرض فلا طائل تحت إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة للساجدين كالكعبة للمسلمين، ولا حاجة إلى التكلف بجعل اللام بمعنى إلى مثلها في قول حسان: أليس أول من صلى لقبلتكم *** فإن للضرورة أحكاماً. لا يناسب أن يقال بها أحسن الكلام نظاماً. وفي هذه الآية منزع بديع لتعظيم شأن العلم وجدارة العلماء بالتعظيم والتبجيل لأن الله لما علم آدم علماً لم يؤهل له الملائكة كان قدجعل آدم أنموذجاً للمبدعات والمخترعات والعلوم التي ظهرت في البشر من بعد والتي ستظهر إلى فناء هذا العالم. وقرأ أبو جعفر في أشهر الرواية عنه (للملائكةُ اسجدوا) بضمة على التاء في حال الوصل على إتْباع حركة التاء لضمة الجيم في (اسجدوا) لعدم الاعتداد بالساكن الفاصل بين الحرفين لأنه حاجز غير حصين، وقراءته هذه رواية وهي جرت على لغة ضعيفة في مثل هذا فلذلك قال الزجاج والفارسي: هذا خطأ من أبي جعفر، وقال الزمخشري: لا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة كقراءة الحسن {الحمدِ لله} [الفاتحة: 2] بكسر الدال قال ابن جني: وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إذا كان ما قبل الهمزة ساكناً صحيحاً نحو: {وقالتُ اخرج عليهن} في سورة يوسف (31) اه وإنما حملوا عليه هذه الحملة لأن قراءته معدودة في القراءات المتواترة فما كان يحسن فيها مثل هذا الشذوذ، وإن كان شذوذاً في وجوه الأدَاء لا يخالف رسم المصحف. وعطف فسجدوا} بفاء التعقيب يشير إلى مبادرة الملائكة بالامتثال ولم يصدَّهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق مظهر فساد وسفك دماء لأنهم منزَّهون عن المعاصي. واستثناء إبليس من ضمير الملائكة في {فسجدوا} استثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قال تعالى في سورة الكَهْففِ (50) {إلا إبليس كان من الجن} ولكن الله جعل أحواله كأحوال النفوس الملكية بتوفيق غلب على جبلته لتتأتى معاشرته بهم وسيره على سيرتهم فساغ استثناء حاله من أحوالهم في مظنة أن يكون مماثلاً لمن هو فيهم. وقد دلت الآية على أن إبليس كان مقصوداً في الخبر الذي أخبر به الملائكة {إذ قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] وفي الأمر الذي أمر به الملائكة إذ قال لهم {اسجدوا لآدم} ذلك أن جنس المجردات كان في ذلك العالم مغموراً بنوع المَلك إذ خلق الله من نوعهم أفراداً كثيرة كما دل عليه صيغة الجمع في قوله: {وإذ قال ربك للملائكة} [البقرة: 30] ولم يخلق الله من نوع الجن إلا أصلهم وهو إبليس، وخلق من نوع الإنسان أصلهم وهو آدم. وقد أقام الله إبليس بين الملائكة إقامة ارتياض وتخلق وسخره لاتباع سنَتهم فجرى على ذلك السَّنَن أمداً طويلاً لا يعلمه إلا الله ثم ظهر ما في نوعه من الخبث كما أشار إليه قوله تعالى: {ففسق عن أمر ربه} في سورة الكهف (50) فعصى ربه حين أمره بالسجود لآدم. وإبليس اسم الشيطان الأول الذي هو مولد الشياطين، فكان إبليس لنوع الشياطين والجن بمنزلة آدم لنوع الإنسان. وإبليس اسم معرب من لغة غير عربية لم يعينها أهل اللغة، ولكن يدل لكونه معرباً أن العرب منعوه من الصرف ولا سبب فيه سوى العلمية والعجمة ولهذا جعل الزجاج همزته أصلية، وقال وزنه على فعليل. وقال أبو عبيدة: هو اسم عربي مشتق من الإبلاس وهو البعد من الخير واليأس من الرحمة وهذا اشتقاق حسن لولا أنه يناكد منعه من الصرف وجعلوا وزنه إفعيل لأن همزته مزيدة وقد اعتذر عن منعه من الصرف بأنه لما لم يكن له نظير في الأسماء العربية عد بمنزلة الأعجمي وهو اعتذار ركيك. وأكثر الذين أحصوا الكلمات المعربة في القرآن لم يعدوا منها اسم إبليس لأنهم لم يتبينوا ذلك وصلاحية الاسم لمادة عربية ومناسبته لها. وجمل أبى واستكبر وكان من الكافرين} استئناف بياني مشير إلى أن مخالفة حاله لحال الملائكة في السجود لآدم، شأنه أن يثير سؤالاً في نفس السامع كيف لم يفعل إبليس ما أمر به وكيف خالف حال جماعته وما سبب ذلك لأن مخالفته لحالة معشره مخالفة عجيبة إذ الشأن الموافقة بين الجماعات كما قال دريد بن الصمة: وهل أنا إلا من غُزَيَّة إن غَوت *** غوَيْت وإِن ترشُد غزية أرشُد فبين السبب بأنه أبى واستكبر وكفر بالله. والإباء الامتناع من فعل أو تلقيه. والاستكبار شدة الكبر والسين والتاء فيه للعد أي عد نفسه كبيراً مثل استعظم واستعذب الشراب أو يكون السين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستقر فمعنى استكبر اتصف بالكبر. والمعنى أنه استكبر على الله بإنكار أن يكون آدم مستحقاً لأن يسجد هو له إنكاراً عن تصميم لا عن مراجعة أو استشارة كما دلت عليه آيات أخرى مثل قوله: {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف: 12] وبهذا الاعتبار خالف فعل إبليس قول الملائكة حين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30]، لأن ذلك كان على وجه التوقف في الحكمة ولذلك قالوا: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30] فإبليس بإبائه انتقضت الجبلة التي جبل عليها أول مرة، فاستحالت إلى جبلة أخرى على نحو ما يعرض من تطور للعاقل حين يختل عقله وللقادر حين تشل بعض أعضائه، ومن العلل علل جسمانية ومنها علل روحانية كما قال: فكنتُ كذي رجلين رجللٍ صحيحة *** ورجل رمى فيها الزمان فشَلت والاستكبار التزايد في الكبر لأن السين والتاء فيه للمبالغة لا للطلب كما علمت، ومن لطائف اللغة العربية أن مادة الاتصاف بالكبر لم تجئ منها إلا بصيغة الاستفعال أو التفعل إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون إلا متطلباً الكبر أو متكلفاً له وما هو بكبير حقاً ويحسن هنا أن نذكر قول أبي العلاء: علوتمُ فتواضعتمْ على ثقة *** لما تواضع أقوام على غرر وحقيقة الكبر قال فيها حجة الإسلام في كتاب «الإحياء»: الكبر خلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى اعتقاد المرء نفسه فوق التكبر عليه، فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به وبذلك ينفصل الكبر عن العجب فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ولا يكفي أن يستعظم المرء نفسه ليكون متكبراً فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مماثلاً لها فلا يتكبر عليه، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل خلق الكبر وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في نفسه اعتداد وعزة وفرح وركون إلى ما اعتقد، وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى تلك العقيدة هو خلق الكبر. وقد كانت هذه الآية ونظائرها مثار اختلاف بين علماء أصول الفقه فيما تقتضيه دلالة الاستثناء من حكم يثبت للمستثنى فقال الجمهور: الاستثناء يقتضي اتصاف المستثنى بنقيض ما حكم به للمستثنى منه فلذلك كثر الاكتفاء بالاستثناء دون أن يتبع بذكر حكم معين للمستثنى سواء كان الكلام مثبتاً أو منفياً. ويظهر ذلك جلياً في كلمة الشهادة لا إله إلا الله فإنه لولا إفادة الاستثناء أن المستثنى يثبت له نقيض ما حكم به للمستثنى منه لكانت كلمة الشهادة غير مفيدة سوى نفي الإلهية عما عدا الله فتكون إفادتها الوحدانية لله بالالتزام. وقال أبو حنيفة الاستثناء من كلام منفي يُثبت للمستثنَى نقيضَ ما حكم به للمستثنى منه، والاستثناء من كلام مثبت لا يفيد إلا أن المستثنى يثبت له نقيض الحكم لا نقيض المحكوم به، فالمستثنى بمنزلة المسكوت عن وصفه، فعند الجمهور المستثنى مخرج من الوصف المحكوم به للمستثنى منه وعند أبي حنيفة المستثنى مخرج من الحكم عليه فهو كالمسكوت عنه. وسوى المتأخرون من الحنفية بين الاستثناء من كلام منفي والاستثناء من كلام مثبت في أن كليهما لا يفيد المستثنى الاتصاف بنقيض المحكوم به للمستثنى منه وهذا رأي ضعيف لا تساعده اللغة ولا موارد استعماله في الشريعة. فعلى رأي الجمهور تكون جملة {أبى واستكبر} استئنافاً بيانياً، وعلى رأي الحنفية تكون بياناً للإجمال الذي اقتضاه الاستثناء ولا تنهض منها حجة تقطع الجدال بين الفريقين. وجملة {وكان من الكافرين} معطوف على الجمل المستأنفة، و(كان) لا تفيد إلا أنه اتصف بالكفر في زمن مضى قبل زمن نزول الآية، وليس المعنى أنه اتصف به قبل امتناعه من السجود لآدم، وقد تحير أكثر المفسرين في بيان معنى الآية من جهة حملهم فعل (كان) على الدلالة على الاتصاف بالكفر فيما مضى عن وقت الامتناع من السجود، ومن البديهي أنه لم يكن يومئذ فريق يوصف بالكافرين فاحتاجوا أن يتمحلوا بأن إبليس كان من الكافرين أي في علم الله، وتمحل بعضهم بأن إبليس كان مظهراً الطاعة مبطناً الكفر نفاقاً، والله مطلع على باطنه ولكنه لم يخبر به الملائكة وجعلوا هذا الاطلاع عليه مما أشار إليه قوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] وكل ذلك تمحل لا داعي إليه لما علمت من أن فعل المضي يفيد مضى الفعل قبل وقت التكلم، وأمثلهم طريقة الذين جعلوا كان بمعنى صار فإنه استعمال من استعمال فعل كان قال تعالى: {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} [هود: 43] وقال: {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً} [الواقعة: 5، 6] وقول ابن أحمر: بتيهاء قفر والمطي كأنها *** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها أي صار كافراً بعدم السجود لأن امتناعه نشأ عن استكباره على الله واعتقاد أن ما أمر به غير جار على حق الحكمة وقد علمت أن الانقلاب الذي عرض لإبليس في جبلته كان انقلاب استخفاف بحكمة الله تعالى فلذلك صار به كافراً صراحاً. والذي أراه أحسن الوجوه في معنى {وكان من الكافرين} أن مقتضى الظاهر أن يقول وكفر كما قال: {أبى واستكبر} فعدل عن مقتضى الظاهر إلى {وكان من الكافرين} لدلالة (كان) في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفراً عميقاً في نفسه وهذا كقوله تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} [الأعراف: 83]، وكقوله تعالى: {ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} [النمل: 41] دون أن يقول أم لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء، وأما الإتيان بخبر {كان من الكافرين} دون أن يقول وكان كافراً فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحداً من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده بناء على أن الواحد يزداد تمسكاً بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها وعليه جاء قوله تعالى: {أصدقت أم كنت من الكاذبين} [النمل: 27] وقوله الذي ذكرناه آنفاً {أم تكون من الذين لا يهتدون} وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين بل كان إبليس وحيداً في الكفر. وهذا منزع انتزعه من تتبع موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين خصوصية زيادة (كان) وخصوصية إثبات الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به وسيجيء ذلك قريباً عن قوله تعالى: {واركعوا من الراكعين} [البقرة: 43]. وإذ لم يكن في زمن امتناع إبليس من السجود جمع من الكافرين كان قوله: {وكان من الكافرين} جارياً على المتعارف في أمثال هذا الإخبار الكنائي. وفي هذا العدول عن مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضاً، وقد رتبت الأخبار الثلاثة في الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب الكلام مطابقاً لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب} [هود: 77] وقد أشرت إلى ذلك في كتابي «أصول الإنشاء الخطابة».
{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} عطف على {قلنا للملائكة اسجدوا} [البقرة: 34] أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة. وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاءِ الملائكة. ونداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى، لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به، وينتزع من هذه الآية أن العالم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم. والأمر بقوله: {اسكن} مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمراً له بأن يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ لا قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به. وضمير (أنت) واقع لأجل عطف {وزوجك} على الضمير المستتر في {اسكن} وهواستعمال العربية عند عطف اسم، على ضمير متصل مرفوع المحل لا يكادون يتركونه، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير مدلول المعطوف لئلا يكون تابعه المعطوف عليه أبرز منه في الكلام، فليس الفصل بمثل هذا الضمير مقيداً تأكيداً للنسبة لأن الإتيان بالضمير لازم لا خيرة للمتكلم فيه فلا يكون مقتضى حال ولا يعرف السامع أن المتكلم مريد به تأكيداً ولكنه لا يخلو من حصول تقرير معنى المضمر وهو ما أشار إليه في «الكشاف» بمجموع قوله: وأنت تأكيد للضمير المستكن ليصح العطف عليه. والزوج كل شيء ثان مع شيء آخر بينهما تقارن في حال ما. ويظهر أنه اسم جامد لأن جميع تصاريفه في الكلام ملاحظ فيها معنى كونه ثاني اثنين أو مماثل غيره، فكل واحد من اثنين مقترنين في حاللٍ ما يسمى زوجاً للآخر قال تعالى: {أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} [الشورى: 50] أي يجعل لأحد الطفلين زوجاً له أي سواه من غير صنفه، وقريب من هذا الاستعمال استعمال لفظ شفع. وسميت الأنثى القرينة للرجل بنكاح زوجاً لأنها اقترنت به وصيرته ثانياً، ويسمى الرجل زوجاً لها لذلك بلا فرق، فمن ثم لا يقال للمرأة زوجة بهاء تأنيث لأنه اسم وليس بوصفه. وقد لحنوا الفرزدق في قوله: وإن الذي يَسعى ليُفسِد زوجتي *** كساععٍ إلى أُسْد الثرى يستبيلُها وتسامح الفقهاء في إلحاق علامة التأنيث للزوج إذا أرادوا به امرأة الرجل لقصد نفي الالتباس في تقرير الأحكام في كتبهم في مثل قولهم: القول قول الزوج، أو القول قول الزوجة وهو صنيع حسن. وفي «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه يا فلان فجاء فقال له: هذه زوجتي فلانة " الحديث، فقوله: زوجتي بالتاء فتعين كونه من عبارة راوي الحديث في السند إلى أنس وليست بعبارة النبيء صلى الله عليه وسلم وطوى في هذه الآية خلق زوج آدم، وقد ذكر في آيات أخرى كقوله تعالى: {الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} [النساء: 1] وسيأتي ذلك في سورة النساء وسورة الأعراف (189). ولم يرد اسم زوج آدم في القرآن واسمها عند العرب حواء وورد ذكر اسمها في حديث رواه ابن سعد في «طبقاته» عن خالد بن خداش عن ابن وهب يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الناس لآدم وحواء كطف لصاع لن يملأوه " الحديث (طف المكيال بفتح الطاء وكسرها ما قرب من ملئه) أي هم لا يبغون الكمال فإن كل كمال من البشر قابل للزيادة. وخالد بن خداش بصري وثقه ابن معين وأبو حاتم وسليمان بن حرب وضعفه ابن المديني. فاسم زوج آدم عند العرب حواء واسمها في العبرانية مضطرب فيه، ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني أن اسمها امرأة سماها كذلك آدم قال: لأنها من امرئ أخذت. وفي الإصحاح الثالث أن آدم دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي. وقال ابن سعد نام آدم فخلقت حواء من ضلعه فاستيقظ ووجدها عنده فقال: أثا أي امرأة بالنبطية، أي اسمها بالنبطية المرأة كما سماها آدم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء} [البقرة: 31] أن آدم دعا نفسه، إيش، فلعل أثا محرقة عن إشّا. واسمها بالعبرية (خمواه) بالخاء المعجمة وبهاء بعد الألف ويقال أيضاً حيوا بحاء مهملة وألف في آخره فصارت بالعربية حواء وصارت في الطليانية إيا وفي الفرنسية أي. وفي التوراة أن حواء خلقت في الجنة بعد أن أسكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف: 189] أي يأنس. والأمر في {اسكن} أمر إعطاء أي جعل الله آدم هو وزوجه في الجنة. والكنى اتخاذ المكان مقراً لغالب أحوال الإنسان. والجنة قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس ويأكل من ثمره إذا جاع ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر ويروقه منظر ذلك كله، فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات. وتعريف (الجنة) تعريف العهد وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها إذا كان التعريف في (الجنة) حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى وذلك جائز في حكاية القول. وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين والمصدقين رسله وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب أي في السماء وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة وهذا الذي تقلده أهل السنة من علماء الكلام وأبو علي الجبائي، وهو الذي تشهد به ظواهر الآيات والأخبار المروية عن النبيء صلى الله عليه وسلم ولا تَعْدُو أنها ظواهرُ كثيرة لكنها تفيد غلبة الظن وليس لهذه القضية تأثير في العقيدة. وذهب أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بَحْر وأبو القاسم البلخي والمعتزلة عدا الجبائي إلى أنها جنة في الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه، ونقل البيضاوي عنهم أنها بستان في فِلسطين أو هو بين فَارس وكِرْمان، وأحسب أن هذا ناشئ عن تطلبهم تعيين المكان الذي ذكر ما يسمى في التوراة باسم عَدْن. ففي التوراة في الإصحاح الثاني من سفر التكوين «وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عَدْن ليعملها ويحفظها ثم قالت فأخرجه الرب الإله من جنة عدْن ليعمل الأرض التي أخذ منها» وهذا يقتضي أن جنة عدن ليست في الأرض لكن الذي عليه شراح التوراة أن جنة عَدْن في الأرض وهو ظاهر وصف نهر هذه الجنة الذي يسقيها بأنه نهر يخرج من عَدْن فيسقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤُوس اسم الواحد (قيشون) وهو المحيط بجميع أرض الحويلة وهم من بني كوش كما في الإصحاح من التكوين واسم النهر الثاني (جَيحون) وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث (حِدّا قِلْ) وهو الجاري شرق أشَور (دجلة). والنهر الرابع الفُرات. ولم أقف على ضبط عَدْن هذه. ورأيت في كتاب عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهودياً وأسلم وألف كتاباً في الرد على اليهود سماه «الحُسام المحدود في الرد على اليهود» كتَبه بغِيدِن وضبطه بالعلامات بكسر الغين المعجمة وكسر الدال المهملة ولعل النقطة على حرف العين سهو من الناسخ فذلك هو منشأ قول القائلين أنها بِعَدْن أو بفلسطين أو بين فارس وكرمان، والذي ألجأهم إلى ذلك أن جنة الثواب دار كمال لا يناسب أن يحصل فيها العصيان وأنها دار خُلد لا يخرج ساكنها، وهو التجاء بلا ملجئ لأن ذلك من أحوال سكان الجنة لا لتأثير المكان وكلُّه جعل الله تعالى عندما أراده. واحتج أهل السنة بأن أل في (الجنة) للعهد الخارجي ولا معهود غيرها، وإنما تعين كونها للعهد الخارجي لعدم صحة الحمْل على الجنس بأنواعه الثلاثة، إذ لا معنى للحمل على أنها لام الحقيقة لأنها قد نيط بها فعل السكنى ولا معنى لتعلقه بالحقيقة بخلاف نحو الرجلُ خير من المرأة، ولا معنى للحمل على العهد الذهني إذ الفرد من الحقيقة هنا مقصود معين لأن الأمر بالإسكان جزاء وإكرام فلا بد أن يكون متعلقاً بجنة معروفة، ولا معنى للحمل على الاستغراق لظهور ذلك. ولما كان المقصود هو الجزاء تعين أن يكون متعلقاً بأمر معين معهود ولا معهود إلا الجنة المعروفة لا سيما وهو اصطلاح الشرع. وقد يقال يختار أن اللام للعهد ولعل المعهود لآدم هو جنة في الأرض معينة أشير إليها بتعريف العهد ولذلك أختار أنا أن قوله تعالى: {اسكُن أنت وزوجك الجنة} لما كان المقصود منه القصص لنا حكي بالألفاظ المتعارفة لدينا ترجمة لألفاظ اللغة التي خوطب بها آدم أو عن الإلهام الذي ألقي إلى آدم فيكون تعريف (الجنة) منظوراً فيه إلى متعارفنا فيكون آدم قد عرف المراد من مسكنه بطريق آخر غير التعريف ويكون قد حُكي لنا ذلك بطريقة التعريف لأن لفظ الجنة المقترن في كلامنا بلام التعريف يدل على عين ما دل عليه الطريق الآخر الذي عَرَف به آدم مراد الله تعالى، أي قلنا له اسكن البقعة التي تسمونها أنتم اليومَ بالجنة، والحاصل أن الأظهر أن الجنة التي أُسكنها آدم هي الجنة المعدودة داراً لجزاء المحسنين. ومعنى الأكل من الجنة من ثمرها لأن الجنة تستلزم ثماراً وهي مما يقصد بالأكل ولذلك تجعل (من) تبعيضية بتنزيل بعض ما يحويه المكان منزلة بعض لذلك المكان. ويجوز أن تكون (من) ابتدائية إشارة إلى أن الأكل المأذون فيه أكل ما تثمره تلك الجنة كقولك هذا الثَّمر من خيبر. والرغَد وصف لموصوف دل عليه السياق أي أَكلاً رغَداً، والرغَد الهنيء الذي لا عناء فيه ولا تقتير. وقوله: {حيث شئتما} ظرفُ مكان أي من أي مواضع أرَدْتُما الأكل منها، ولما كانت مشيئتهما لا تنحصر بمواضع استفيد العموم في الإذن بطريق اللزوم، وفي جعل الأكل من الثمر من أحوال آدم وزوجه بين إنشائها تنبيه على أن الله جعل الاقتيات جبلة للإنسان لا تدوم حياته إلا به. وقوله: {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} يعني به ولا تأكلا من الشجرة لأن قربانها إنما هو لقصد الأكل منها فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل لأن القرب من الشيء ينشئ داعية وميلاً إليه ففيه الحديث «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وقال ابن العربي سمعتُ الشاشي في مجلس النظر يقول: (إذا قيل لا تقرب (بفتح الراء) كان معناه لا تتلَبس بالفعل، وإذا قيل بضم الراء كان معناه لا تدن منه) اه. وهو غريب فإن قَرُب وقَرِب نحو كرم وسمع بمعنى دنا، فسواء ضممت الراء أو فتحتها في المضارع فالمراد النهي عن الدنو إلا أن الدنو بعضه مجازي وهو التلبس وبعضه حقيقي ولا يكون للمجازي وزن خاص في الأفعال وإلا لصار من المشترك لا من الحقيقة والمجاز، اللهم إلا أن يكون الاستعمال خص المجازي ببعض التصاريف فتكون تلك الزنة قرينة لفظية للمجاز وذلك حَسن وهو من محاسن فروق استعمال الألفاظ المترادفة في اللغة العربية مثل تخصيص بَعِدَ مكسور العين بالانقطاع التام وبعد مضموم العين بالتنحّي عن المكان ولذلك خص الدعاء بالمكسور في قولهم للمسافر لا تبعَد، قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية: إخْوَتِي لا تَبْعَدوا أبدا *** وَبَلى واللَّه قَد بعِدوا وفي تعليق النهي بقربان الشجرة إشارة إلى منزع سد الذرائع وهو أصل من أُصول مذهب مالك رحمه الله وفيه تفصيل مقرر في أصول الفقه. والإشارة بهذه إلى شجرة مرئية لآدم وزوجه، والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرةً وحيدة في الجنة. وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين. ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر. وقوله: {فتكونا من الظالمين} أي من المعتدين وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو الاعتداء، والاعتداء إما اعتداء على نهي الناهي إن كان المقصود من النهي الجزْم بالترك وإما اعتداء على النفس والفضيلة إن كان المقصود من النهي عن الأكل من الشجرة بقاء فضيلة التنعُم لآدم في الجنة، فعلى الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب الله وعقابه وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة.
|